مُجَرَّد مُشَرَّد


إنه يوم الحادي عشر من ديسمبر " المودع المستقبل".
الساعة الثامنة صباحا 
الطقس شديد البرودة كأجساد الفقراء والمشردين بلا مأوي، الطرقات مليئة بالضباب كأعينهم التي اكتظت بالأتربة والأدخنة وأصيبت بالضعف والمشيب لأنهم لا يملكون ثمن تلك النظارات التي يرتديها الآخرون!
عواصف متتالية تهب، شديدة القسوة، تشبه تماما ما يتعرضون له من أخطار جسيمة يوما تلو الآخر ولا أحد يشعر بهم.
" عالم فاقد للشعور، أصم، أبكم! "
وهذه الحانة الصغيرة في الشارع الأمامي التي ينبعث منها بعض الدفء، كثيرا ما تشبه قلوبهم الدفيئة، شديدة الرفق والحب.
وأنا هنا أقف عند أحد الأرصفة أنتظر مجئ القطار كعادتي لأذهب إلى الجامعة 
صوت بكاء رجل مسن،
مزق الزمن أوتار قلبه وجسده وملامحه وأحلامه، مزق كل شيء 
حتى ملابسه، لم يبقيها له!
ورجل آخر سمين، غليظ، أنكر الصوت، بذئ القول 
يسب ذلك الرجل المسكين قائلا
من أنت أيها الصعلوق كي تجلس بجواري وتضع هذه الأشياء ذات الرائحة الكريهة مثلك بجانب حقيبتي الثمينة التي لا تستطيع شرائها حتى في أحلامك!
ثم يدفعه بشدة ويسقط الرجل من ضعفه ونخور قوته على الأرض ولا يفعل شيء سوا البكاء!
يا لقلة حيلته.
وأنا أشاهد الموقف في ذهول وصمت ودقات قلبي تتسارع بشدة لما تحمل من غضب
ثم انطلق لساني دون شعور ليخفف عن قلبي بعض مما الم به 
وصرخت بوجه هذا الرجل عديم الرحمة والدين والخلق والإنسانية قائلة 
" يا لك من رجل منزوع القلب، كيف تفعل ذلك بهذا الرجل المسكين!
كل ذلك فقط لأنه فقير معدم
ذو ملابس بالية ورائحة لا تروق لجانب عظمتك؟
قل لي:
بماذا تفيد الملابس النظيفه البيضاء على قلب أسود متسخ مثل قلبك؟
لاشئ بالتأكيد.
ثم مددت يدي لهذا الرجل الباكي المشرد الذي إبيضت عيناه من الحزن والبكاء وضاقت عليه دنياه لما لقاه من ساكنيها.
وقلت له " لا يحزنك اتساخ ملابسك، يكفي نقاء قلبك أيها الرجل الطيب، لا تبكي "
وقلبي يعتصر الما على حاله.
فقال لي: "جزاك الله خيرا يا بنيتي، فليحفظك الله".
ثم انطلق ليكمل طريق غربته ووحدته!
وركبت أنا القطار وعيناي تسكب دمعا لعجزي وقلة حيلتي.
(كفاكم يا بني آدم)
كفاكم قتلا للقلوب
وتمزيقا للأرواح 
كفاكم.
" لم نخلق لهذا ".
وأخيرا تذكروا
(لا قيمة للثياب البيضاء مأدام القلب أسود،
ولا بأس بثوب متسخ مرقع مأدام صاحبه يحمل قلبا أبيضا).
بقلم / رانيا عادل سالمان

إرسال تعليق

أحدث أقدم