في ليلة شتوية تجلس على رصيف الطريق فتاة غاية في الجمال ، وهي في حالة يرثى لها و عيونها تمتلئ بالدموع و يتردد علي لسانها
الفتاة : ماذا افعل ؟ ماذا افعل ؟
وكل من يمر بجانبها يخاف منها معتقدا أنها مصابة بالجنون أو تعاني من مرض عقلي ، وفي أثناء جلوسها علي تلك الحالة يظهر من بعيد رجل كبير السن و يظهر علي هيئته الوقار و الاحترام و يجلس بجوار الفتاة و يبدأ في الكلام معها قائلا .
الرجل : يمكنك أن تسمعي قصتي يا بنيتي ، لأنني محتاجة رأي شخص غريب عني .
تنظر الفتاة باستغراب و خوف من الرجل ، و تسأله
الفتاة : هل تتحدث إلى أنا ؟
الرجل : نعم يا بنيتي أتحدث إليك، عندي مشكلة و أريد التحدث معك فيها و أخذ رأيك.
قالت الفتاة بصوت يأس تملأه الدموع : لا تجد غيري تأخذ رأيها ، إن رأيي لا يفيد أحد و لا يهتم أحد لشأني .
الرجل : كيف ذلك ؟
الفتاة : نعم أنا إنسانة محطمة و لا أقوى علي إبداء الرأي أو النصيحة لأي شخص و لا حتي نفسي .
الرجل : يمكنك سماع قصتي أولا، و بعدها لك حرية القرار أن تعطيني الرأي أو لا .
الفتاة : و لماذا تجهد نفسك بالحوار معي ؟ و أنا لا أستطيع أن أفيدك في شيء.
الرجل : لنجرب و التجربة خير برهان ربما كانت الفائدة الأكبر لك أنت .
الفتاة : أنا لم افهم شيء.
الرجل : عند سماعك قصتي تفهمين كل شيء.
الفتاة : يبدو عليك الإصرار، إذن تفضل .
الرجل : كنت شابا في مثل عمرك عندما تشاجرت مع والدي و زاد بيننا الخلاف ،وقررت من فوري الخروج من المنزل و أنا غاضب جدا وأفكر، كيف يعاملني والدي بتلك الطريقة ؟ فأنا لم أعد طفل صغير؛ كيف يتجرأ والدي و يرفع صوته علي أو يهددني بأنه سيحرمني من المصروف اليومي أو يمنع عني ما أحب أو حتي يحاول أن يضربني أو يعنفني علي طريقتي في التعامل معه أو مع أمي ؟!!!! و لا أرى نفسي مخطئ ،ما المشكلة عندما أرد على أمي ؟!!!، و راجعها في كلامها فأنا أرى نفسي تعليمي أفضل من تعليمها و يجب عليها هي أن تسمع كلامي و لا تراجعني في أي شيء. و ما المشكلة إذا فعلت أشياء هي بالنسبة لأبي و أمي خاطئة و لا يجوز أن أفعلها؟!!!! و كنت دائما أتهم أبي أنه شخص رجعي وغير متحضر و لا يواكب التطور والعصر، و أمي بأنها ليست علي قدر من العلم مثلي فتعليمها قليل مقارنة بتعليمي و لا تفهم ما أفهم و لا تستطيع الحديث معي و لا تقدر على مواجهة المشاكل في الحياة دون مساعدة أبي لها فكيف يطلب أبي مني أن أسمع كلامها بدون مناقشة؟!!!!! أنا لا أقبل بذلك .
تنظر الفتاة للرجل باهتمام و تقول : و ماذا حدث لك بعد أن ترك المنزل و خرجت ؟
الرجل : عندما خرجت في البداية كنت سعيد لشعوري بالحرية المطلقة لأنني أملك نفسي لا أحد يوبخني علي أفعالي الخاطئة أو يقول لي هذا صواب وهدا خطأ ؛ و أستطيع الآن فقط الاستمتاع بحياتي بالطريقة التي أراها أنا مناسبة لشاب مثلي و ليس كهل مثل أبي و أمي . كم كنت وقتها شخص أناني !!!!! و لكن بعد أن جلست علي الرصيف و بدأ أردد ماذا افعل ؟ جاء في ذهني حديث آخر هل لي مكان أذهب إليه غير أبي وأمي؟ نعم لأنني ببساطة لدي من الأصدقاء و الأقارب الكثير و أستطيع أن أذهب إلى أي منهم و أنال كل الترحيب و تنتهي أحكام أبي من حياتي و التي كنت أطلق عليها الأحكام العرفية استهزاء بها ، و أبعد أيضا عن صوت أمي التي كنت أحس أنها تتعامل معي أني طفل في الخامسة من عمري أحتاج لها أن تطعمني وتسقيني أو حتي تصل بها الحالة أنها ترغب أن تغير لي ثيابي كيف هذا !!!!! لم أعد أطيق .
الفتاة: عندك حق هذه تصرفات تبدو غريبة من كليهما؛ و لكن كيف حلت معك تلك المشكلة؟
الرجل : حلت مشكلة المكان ،ولكن حضن أبي و عاطفته أين يمكن أن أجدها و حنية أمي و طيبتها أين يمكن أن أجدها ؟
ينظر الرجل للفتاة ، وهي أيضا تنظر إليه و الدموع تنهمر من عينيها و تقول: لا يوجد مكان مثل حضن أبي و أمي ؟
الرجل : لذلك يجب أن تفعلي مثلما فعلت أنا بالضبط عندما وجدت الإجابة عن السؤال .
الفتاة بلهفة : و ماذا فعلت أنت؟
الرجل : رجعت إلي منزلي بسرعة و قبلت يد أمي و رأسها و اعتذرت لها ؛ و أخبرتها أنها أعظم أم في العالم ، ثم ذهبت إلى أبي الذي كان في خلوته يستعد للصلاة و جلست بجواره أسمع صوته ، و هو يقرأ القرآن الكريم، و بعد انتهاء القراءة قام للصلاة ولم أقاطعه بل صليت خلفه و شعرت براحة جميلة لم أشعر بها قبل ذلك علي الرغم أني صليت كثيرا مع أبي و لكن من داخلي كنت أشعر أنه مجرد تأدية واجب فأنا أصلي لأداء الفرض فقط ، و لكن هذه المرة وجدت حلاوة الخشوع و الحب لأبي، و أنني يجب أن أعذر أبي في تصرفاته و اعتذر منه علي أفعالي معه و بالفعل اعتذرت منه و قال لي كلمات لا أنساها إلى اليوم .
الفتاة : و ما هي هذه الكلمات؟
الرجل : قال أبي عندما يكون لديك أبناء ستشعر مثلما أشعر الآن ، وقلت له و ما الذي تشعر به يا أبي؟!!!!
قال الأب : شعور بالخوف عليك و القلق من كل شيء، أنت تعتقد أنك كبرت و لا يجب أن أخاف عليك و يجب أن أترك لك الحرية في كل التصرفات لكني أراك طفلا و حتي أن كنت ضعف عمرك ولديك من الأبناء عدد ، لا يغير ذلك شيء ستظل ابني وسأظل أخاف عليك طول الوقت ؛ عندها شعرت بعظمة أبي وطيبة قلب أمي وشعرت أيضا بمدي جحودي لفضلهم علي والآن لا أريد منك أن تصبحي مثلي وإنما أريدك أن تعودي الآن إلي والديك وتفعلي مثل ما فعلت أنا
الفتاة وهي تنظر إليه ومازالت الدموع تنهمر من عينيها : و لكن كيف ذلك؟؟؟؟
الرجل : مثل ما فعلت أنا؟
الفتاة : أنني أغضبت أمي كثيرا وحتما هي لا تريد رؤيتي مجددا ؟
الرجل: هذا خطأ والدتك لن تشعر بالسعادة مطلقا وأنت بعيدة عنها و لا تعرف عنك شيئا وإنما سعادتها في وجودك ؟
الفتاة : هل تعتقد ذلك حقا ؟
الرجل : بكل تأكيد.
الفتاة: نعم معك حق علي أن أعود لأمي علي الفور، و أقبل يدها و أعتذر لها ، و لكن أريد أن أسألك سؤال .
الرجل : تفضلي .
الفتاة ::كيف علمت بما دار بيني و بين أمي ؟
الرجل : أنا لم أعرف شيء أنها كانت مشكلتي أنا مع أبي وأمي؛ و طلبت رأيك هل نسيتي ما تحدثنا عنه ؟
الفتاة : حقا أشكرك أنت قدمت لي معروفا كبيرا .
الرجل : هيا اذهبي يا فتاة قبل فوات الأوان .
الفتاة: لم أفهم ما تقصده .
الرجل :لا يهم ولكن اذهبي الآن بسرعة .
تذهب الفتاة وهي تمسح دموعها بيديها و بعد رحيلها يجلس الرجل و تنزل دموعه رغما عنه و يقول: ليتني وجدت من يجلس إلي جواري حين خرجت من منزلي و ينصحني بالعودة لم يحدث لي ما حدث ولا كنت خسرت ما خسرت طول عمري السابق ..
" الأب عمر و الأم حياة "
إبداع الكاتبة هند مصطفى
رئيس التحرير: عبدالله إبراهيم
نائب رئيس التحرير: دعاء الرصاصي
الوسوم:
ثقافة