يوسف الفرساوي/ قصة قصيرة: نعم مجرم ولكن

غارقة في تفتيش صندوق ذكرياتها، وحيدة بعد منتصف الليل، تمعن النظر في صور وأدوات ورسائل لوم وعتاب، بحسرة تتذكر اللحظات الجميلة المعدودة على رؤوس أصابع اليد الواحدة التي قضتها مع تلامذتها، يرن هاتفها المحمول في الغرفة المجاورة، لم تُعِر للاتصال اهتمامًا، نسِيَت آخر اتصال تلقته، بخطوات متثاقلة تصل للمطلوب، تندهش حيث الاتصال من رقم مجهول، تتساءل باستغراب شديد عن هوية المتصل؛ فلا أحد يمتلك رقمها، تتردّد في إجابته، يزداد ترددها مع تكرار الاتصال، تخاف من الرد؛ فتخرسه، تأتي رسالة في الحين تشعرها بالرعب بحجم شغف معرفة المكتوب، تأخذ جرعات من الجرأة وتفتح الرسالة: "رجاء أجيبي يا سيدتهم المحترمة، لن أطيل عليك، كلمتان فقط ".
 يخفق قلبها بشدة، لم تعرف المتصل، ولا المطلوب منها، ولكن إحساس الأمان غير موجود؛ فتجيب: "ألو من معي؟" 
 بابتسامة على صوت المتصل يرد: "أهلا بالأستاذة الإنسانة! "، يأخذ هنيهة صمت، فيتابع: "ألم يساعدك حدسُكِ هذه المرة في معرفة الفاشلين من النظرة الأولى".
بهدوء مصطنع في الصوت، وارتجاف للجسد تقول: "ليس لديّ الوقت الكثير لأضيعه، من أنت؟ وماذا...؟"
يقاطعها :"لا بلى، لديك الوقت الكافي، حتى أصبحتِ مشغولة باللا شيء، ألستِ صاحبة مقولة (وقت الفراغ يكون عند الفقراء الفاشلين فقط)؟"
يضحك ضحكات استهزاء ويتابع: "أظن أصبحتِ فقيرة فاشلة مثلنا".
ترن الجمل كالسيف في قلبها، كلمات غير غريبة على قاموسها، تحاول تذكر شيء معين، تحاول استجماع قوتها في صمت. 
يقاطعها: "ألم تتعرفي عليّ؟! غريب! أنا الذي كان يغرس خنجرًا في جسده مع كل تمرِينٍ لم أنجزه، أنا الكسلان الفاشل الاتّكاليّ الغبي الذي لا يصلح لشيء، كنت أتمنى الموت مع كل يوم أتوجه فيه إلى المدرسة اللعينة حيث تتواجدين، أتعلمِين أنّكِ كنت محقة، كبرتُ ولم أحقق شيئًا كما كنت تقولين".
تحاول مقاطعته، بنبرة صوت حزين يصرخ في وجهها: "سنوات وأنتِ تتحدثين، والآن حان دوري"، ويتابع في هدوء: "لا تخافي لن أطيل عليكِ، هي كلمات وسألتحق بأحلامي الطفولية؛ فكل شيء جاهز للسفر، هل تتذكرين اليوم الذي قلتِ لي فيه: لم تُنجِز التمارين كما العادة، فقد كنتَ سهرانًا مع أمك يا ابن "الشيخة"، ضحك زملائي كثيرًا، تمنيتُ الموت آلاف المرات، ولكن لم أمُت للأسف، زملائي بالفصل وحتى الشارع أصبحوا ينادونني "يا ابن الشيخة"، في مرة وأنا أتسكع وحيدًا بين أزقة الحي البائس الذي أقطنه مررتُ بحزمة من الأولاد، استهزؤوا بي، وضحكوا بسخرية، وقال أحدهم: "سليم.. هل ستصبح شيخة مثل أمك؟"، لا زالت قهقهتهم في آذاني ترن، في تلك اللحظة عدتُ مسرعًا للمنزل، بكيت طيلة الليل، لم أجد غير وسادتي تتحمل دموعي، وشكيتُ لها همومي، في لحظة تفكير وتفكير قررتُ أن أتخلص من العار الذي يرافقني، ويسبّب لي الآلام، وقررت تنفيذ خطتي: "في لحظة تنظيفها للبيت سأسكبُ مزيدًا من الصابون بالدرج، وانزلاقها من أعلى الدرج أكيد لن يُبقِيها على قيد الحياة"، كنتِ دائمًا ما تناديني بالغبي، ولكن أظن أنني لستُ غبيًّا في كل شيء، فقد نجحت في التخلص من العار الذي لم أستطِع التخلص منه، والآن بإمكانك إقفال الخط، سنتقابل في الجحيم".
تجمّدَت ملامحها، وانهمرت دموعها على خدَّيها، وعجزت كلماتها عن التعبير، وتاهت حروفها عن السطور قائلة: "في قلبي الشيء الكثير لم أستطِع البوح به، سنوات وأنا تائهة في أصقاع التفكير، لم أجد إبرة تلملم جراحي، انتظرني سآتي معك؛ لأعترف بجريمتي النكراء؛ فقد كنت طوال أربعين سنة أبني الأفكار، ولكنّني أقتل بداخلِكُم الإنسان".

رئيس التحرير: عبدالله إبراهيم

إرسال تعليق

أحدث أقدم